فصل: تفسير الآية رقم (11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (11):

{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ مِنَ النِّعْمَةِ وَالْعَافِيَةِ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَسْلُبُ قَوْمًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} الْآيَةَ [8/ 53]، وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [42/ 30].
وَقَدْ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا: أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ قَوْمًا بِسُوءٍ فَلَا مَرَدَّ لَهُ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: {وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [6/ 147]، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، يَصْدُقُ بِأَنْ يَكُونَ التَّغْيِيرُ مِنْ بَعْضِهِمْ كَمَا وَقَعَ يَوْمَ أُحُدٍ بِتَغْيِيرِ الرُّمَاةِ مَا بِأَنْفُسِهِمْ فَعَمَّتِ الْبَلِيَّةُ الْجَمِيعَ، وَقَدْ سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ». وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} الْآيَةَ.
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُرِي خَلْقَهُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا، قَالَ قَتَادَةُ: خَوْفًا لِلْمُسَافِرِ يَخَافُ أَذَاهُ وَمَشَقَّتَهُ، وَطَمَعًا لِلْمُقِيمِ يَرْجُو بَرَكَتَهُ وَمَنْفَعَتَهُ وَيَطْمَعُ فِي رِزْقِ اللَّهِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: الْخَوْفُ لِأَهْلِ الْبَحْرِ، وَالطَّمَعُ لِأَهْلِ الْبَرِّ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ: الْخَوْفُ مِنَ الصَّوَاعِقِ، وَالطَّمَعُ فِي الْغَيْثِ.
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ إِرَاءَتَهُ خَلْقَهُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا مِنْ آيَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} الْآيَةَ [30/ 24].

.تفسير الآية رقم (15):

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَسْجُدُ لَهُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَتَسْجُدُ لَهُ ظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، وَذَكَرَ أَيْضًا سُجُودَ الظِّلَالِ وَسُجُودَ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [16/ 48، 49] إِلَى قَوْلِهِ: {يُؤْمَرُونَ} [16/ 50]، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِسُجُودِ الظِّلِّ وَسُجُودِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: سُجُودُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، فَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمَلَائِكَةُ يَسْجُدُونَ لِلَّهِ سُجُودًا حَقِيقِيًّا، وَهُوَ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، يَفْعَلُونَ ذَلِكَ طَوْعًا، وَالْكُفَّارُ يَسْجُدُونَ كَرْهًا، أَعْنِي الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ فِي الْبَاطِنِ وَلَا يَسْجُدُونَ لِلَّهِ إِلَّا كَرْهًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} الْآيَةَ [4/ 142]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [9/ 54]، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ سُجُودَ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [22/ 18]، فَقَوْلُهُ: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [22/ 18] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي السُّجُودِ الْمَذْكُورِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَغَيْرِهِمَا، وَذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ، وَقِيلَ الْآيَةُ عَامَّةٌ. وَالْمُرَادُ بِسُجُودِ الْمُسْلِمِينَ طَوْعًا انْقِيَادُهُمْ لِمَا يُرِيدُ اللَّهُ مِنْهُمْ طَوْعًا، وَالْمُرَادُ بِسُجُودِ الْكَافِرِينَ كَرْهًا انْقِيَادُهُمْ لِمَا يُرِيدُ اللَّهُ مِنْهُمْ كَرْهًا؛ لِأَنَّ إِرَادَتَهُ نَافِذَةٌ فِيهِمْ وَهُمْ مُنْقَادُونَ خَاضِعُونَ لِصُنْعِهِ فِيهِمْ وَنُفُوذِ مَشِيئَتِهِ فِيهِمْ، وَأَصْلُ السُّجُودِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الذُّلُّ وَالْخُضُوعُ، وَمِنْهُ قَوْلُ زِيدِ الْخَيْلِ:
بِجَمْعٍ تَضِلُّ الْبُلْقُ فِي حُجُرَاتِهِ ** تَرَى الْأَكَمَ فِيهَا سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ

وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: أَسْجُدُ: إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ وَانْحَنَى، قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ:
فَلَمَّا لَوَيْنَ عَلَى مِعْصَمٍ ** وَكَفٍّ خَضِيبٍ وَأَسْوَارِهَا

فُضُولَ أَزِمَّتِهَا أَسْجَدَتْ ** سُجُودَ النَّصَارَى لِأَحْبَارِهَا

وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالسُّجُودُ لُغَوِيٌّ لَا شَرْعِيٌّ، وَهَذَا الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ جَارٍ أَيْضًا فِي سُجُودِ الظِّلَالِ، فَقِيلَ: سُجُودُهَا حَقِيقِيٌّ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ لَهَا إِدْرَاكًا تُدْرِكُ بِهِ وَتَسْجُدُ لِلَّهِ سُجُودًا حَقِيقِيًّا، وَقِيلَ: سُجُودُهَا مَيْلُهَا بِقُدْرَةِ اللَّهِ أَوَّلَ النَّهَارِ إِلَى جِهَةِ الْمَغْرِبِ، وَآخِرَهُ إِلَى جِهَةِ الْمَشْرِقِ، وَادَّعَى مَنْ قَالَ هَذَا أَنَّ الظِّلَّ لَا حَقِيقَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ خَيَالٌ فَلَا يُمْكِنُ مِنْهُ الْإِدْرَاكُ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ لِلظِّلِّ إِدْرَاكًا يَسْجُدُ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى سُجُودًا حَقِيقِيًّا، وَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ هِيَ: حَمْلُ نُصُوصِ الْوَحْيِ عَلَى ظَوَاهِرِهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَاصِلَ الْقَوْلَيْنِ:
أَنَّ أَحَدَهُمَا: أَنَّ السُّجُودَ شَرْعِيٌّ وَعَلَيْهِ فَهُوَ فِي أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ السُّجُودَ لُغَوِيٌّ بِمَعْنَى الِانْقِيَادِ وَالذُّلِّ وَالْخُضُوعِ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ النَّصَّ إِنْ دَارَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ حُمِلَ عَلَى الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ التَّحْقِيقُ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي تَقْدِيمِ اللُّغَوِيَّةِ، وَلِمَنْ قَالَ يَصِيرُ اللَّفْظُ مُجْمَلًا لِاحْتِمَالِ هَذَا وَذَاكَ، وَعَقَدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَاللَّفْظُ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّرْعِيِّ ** إِنْ لَمْ يَكُنْ فَمُطْلَقُ الْعُرْفِيِّ

فَاللُّغَوِيُّ عَلَى الْجَلِيِّ وَلَمْ يَجِبْ بَحْثٌ عَنِ الْمَجَازِ فِي الَّذِي انْتُخِبْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِسُجُودِ الْكُفَّارِ كَرْهًا سُجُودُ ظِلَالِهِمْ كَرْهًا، وَقِيلَ: الْآيَةُ فِي الْمُؤْمِنِينَ فَبَعْضُهُمْ يَسْجُدُ طَوْعًا؛ لِخِفَّةِ امْتِثَالِ أَوَامِرِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهُمْ يَسْجُدُ كَرْهًا؛ لِثِقَلِ مَشَقَّةِ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ إِيمَانَهُ يَحْمِلُهُ عَلَى تَكَلُّفِ ذَلِكَ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى:
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {بِالْغُدُوِّ} [13/ 15] يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا أَوْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ غَدَاةٍ، وَالْآصَالُ جَمْعُ أُصُلٍ بِضَمَّتَيْنِ وَهُوَ جَمْعُ أَصِيلٍ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ وَالْغُرُوبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
لَعَمْرِي لَأَنْتَ الْبَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ ** وَأَقْعُدُ فِي أَفْيَائِهِ بِالْأَصَائِلِ

قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}.
أَشَارَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ وَلَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الْخَلْقِ أَنْ يَعْبُدُوهُ إِلَّا مَنْ خَلَقَهُمْ وَأَبْرَزَهُمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} [13/ 16] إِنْكَارُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ وَحْدَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [13/ 16] أَيْ: وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ، وَيُبَيِّنُ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} الْآيَةَ [2/ 21]، وَقَوْلِهِ: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [25/ 3]، وَقَوْلِهِ: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [7/ 191]، وَقَوْلِهِ: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [31/ 11] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ مُحْتَاجٌ إِلَى خَالِقِهِ فَهُوَ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ مِثْلَكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْبُدَ مَنْ خَلَقَهُ وَحْدَهُ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْكَ ذَلِكَ، فَأَنْتُمَا سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وُجُوبِ عِبَادَةِ الْخَالِقِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

.تفسير الآية رقم (27):

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِتْيَانَ بِآيَةٍ يُنَزِّلُهَا عَلَيْهِ رَبُّهُ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِهِ: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [21/ 5]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ كِفَايَةً عَنْ جَمِيعِ الْآيَاتِ، فِي قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [29/ 51]، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ حِكْمَةَ عَدَمِ إِنْزَالِ آيَةٍ كَنَاقَةِ صَالِحٍ وَنَحْوِهَا، بِقَوْلِهِ: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ} الْآيَةَ [17/ 59]، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} الْآيَةَ.
جَوَابُ لَوْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَحْذُوفٌ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَقْدِيرُهُ: لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ تَقْدِيرُهُ: لَكَفَرْتُمْ بِالرَّحْمَنِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْأَخِيرِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [13/ 30]، وَقَدْ قَدَّمْنَا شَوَاهِدَ حَذْفِ جَوَابِ لَوْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ يُوسُفَ أَنَّ الْغَالِبَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ الْمَحْذُوفُ مِنْ جِنْسِ الْمَذْكُورِ قَبْلَ الشَّرْطِ لِيَكُونَ مَا قَبْلَ الشَّرْطِ دَلِيلًا عَلَى الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} الْآيَةَ.
بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الرُّسُلَ قَبْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ، يَتَزَوَّجُونَ، وَيَلِدُونَ، وَلَيْسُوا مَلَائِكَةً، وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ اسْتَغْرَبُوا بَعْثَ آدَمِيٍّ مِنَ الْبَشَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [17/ 94]، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُرْسِلُ الْبَشَرَ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ وَيَأْكُلُونَ، كَقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [25/ 20]، وَقَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} الْآيَةَ [21/ 8]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ.

.تفسير الآية رقم (43):

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}.
الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ عَطْفٌ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} الْآيَةَ [16/ 43]، وَقَوْلُهُ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} الْآيَةَ [16/ 43]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

.سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

.تفسير الآية رقم (1):

{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ (1-1)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} الْآيَةَ.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْكِتَابَ الْعَظِيمَ لِيُخْرِجَ بِهِ النَّاسَ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَالْهُدَى، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} الْآيَةَ [57/ 9]، وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} الْآيَةَ [2/ 275] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى هُنَا أَنَّهُ لَا يُخْرِجُ أَحَدًا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ إِلَّا بِإِذْنِهِ جَلَّ وَعَلَا فِي قَوْلِهِ: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} الْآيَةَ [14/ 1]، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} الْآيَةَ [4/ 64]، وَقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} الْآيَةَ [10/ 100]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

.تفسير الآية رقم (4):

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ}.
بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ رَسُولًا إِلَّا بِلُغَةِ قَوْمِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ رَسُولًا إِلَّا إِلَى قَوْمِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرْسِلَ إِلَى جَمِيعِ الْخَلَائِقِ دُونَ اخْتِصَاصٍ بِقَوْمِهِ وَلَا بِغَيْرِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [7/ 158]، وَقَوْلِهِ: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [25/ 1]، وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} الْآيَةَ [34/ 28] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عُمُومِ رِسَالَتِهِ لِأَهْلِ كُلِّ لِسَانٍ، فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِبْلَاغُ أَهْلِ كُلِّ لِسَانٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَعَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ، فَقَالُوا: بِمَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ فَضَّلَهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [21/ 29]، وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [48/ 1، 2] قَالُوا: فَمَا فَضْلُهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [4/ 14]، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [34/ 28]، فَأَرْسَلَهُ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ تَفْسِيرٌ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلْآيَةِ بِمَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.تفسير الآية رقم (9):

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} الْآيَةَ.
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَعْنَاهَا أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ جَعَلُوا أَيْدِيَ أَنْفُسِهِمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ؛ لِيَعَضُّوا عَلَيْهَا غَيْظًا وَحَنَقًا لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ؛ إِذْ كَانَ فِيهِ تَسْفِيهُ أَحْلَامِهِمْ، وَشَتْمُ أَصْنَامِهِمْ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} الْآيَةَ [3/ 119]، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَرُدُّونَ فِي فِيهِ غِشَّ الْحَسُودِ ** حَتَّى يَعَضَّ عَلَى الْأَكُفِّ

يَعْنِي: أَنَّهُمْ يَغِيظُونَ الْحَسُودَ حَتَّى يَعَضَّ عَلَى أَصَابِعِهِ وَكَفَّيْهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ أَيْضًا:
قَدْ أَفْنَى أَنَامِلَهُ أَزْمُهُ ** فَأَضْحَى يَعَضُّ عَلَيَّ الْوَظِيفَا

أَيْ أَفْنَى أَنَامِلَهُ عَضًّا، وَقَالَ الرَّاجِزُ:
لَوْ أَنَّ سَلْمَى أَبْصَرَتْ تَخَدُّدِي ** وَدِقَّةً بِعَظْمِ سَاقِي وَيَدِي

وَبُعْدَ أَهْلِي وَجَفَاءَ عُودِي ** عَضَّتْ مِنَ الْوَجْدِ بِأَطْرَافِ الْيَدِ

وَفِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذَا، مِنْهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا كِتَابَ اللَّهِ عَجِبُوا وَرَجَعُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى أَفْوَاهِهِمْ مِنَ الْعَجَبِ. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، أَشَارُوا بِأَصَابِعِهِمْ إِلَى أَفْوَاهِهِمْ أَنِ اسْكُتْ تَكْذِيبًا لَهُ وَرَدًّا لِقَوْلِهِ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَمِنْهَا: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ رَدُّوا عَلَى الرُّسُلِ قَوْلَهُمْ وَكَذَّبُوهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ، فَالضَّمِيرُ الْأَوَّلُ لِلرُّسُلِ وَالثَّانِي لِلْكُفَّارِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِي بِمَعْنَى الْبَاءِ. وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ فِي هُنَا بِمَعْنَى الْبَاءِ، قَالَ: وَقَدْ سُمِعَ مِنَ الْعَرَبِ: أَدْخَلَكَ اللَّهُ بِالْجَنَّةِ، يَعْنُونَ: فِي الْجَنَّةِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَرْغَبُ فِيهَا عَنْ لَقِيطٍ وَرَهْطِهِ ** وَلَكِنَّنِي عَنْ سُنْبُسٍ لَسْتُ أَرْغَبُ

يُرِيدُ وَأَرْغَبُ بِهَا: قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ بِتَمَامِ الْكَلَامِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [14/ 9].
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الظَّاهِرُ عِنْدِي خِلَافُ مَا اسْتَظْهَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ يَقْتَضِي مُغَايَرَةَ مَا بَعْدَهُ لِمَا قَبْلَهُ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ الْآيَةَ غَيْرُ التَّصْرِيحِ بِالتَّكْذِيبِ بِالْأَفْوَاهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ الْكُفَّارَ جَعَلُوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِ الرُّسُلِ رَدًّا لِقَوْلِهِمْ، وَعَلَيْهِ فَالضَّمِيرُ الْأَوَّلُ لِلْكُفَّارِ وَالثَّانِي لِلرُّسُلِ، وَيُرْوَى هَذَا عَنِ الْحَسَنِ، وَقِيلَ: جَعَلَ الْكُفَّارُ أَيْدِيَ الرُّسُلِ عَلَى أَفْوَاهِ الرُّسُلِ لِيُسْكِتُوهُمْ وَيَقْطَعُوا كَلَامَهُمْ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ مُقَاتِلٍ، وَقِيلَ: رَدَّ الرُّسُلُ أَيْدِيَ الْكُفَّارِ فِي أَفْوَاهِهِمْ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، فَقَدْ رَأَيْتَ الْأَقْوَالَ وَمَا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ مِنْهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
تَنْبِيهٌ:
جَمْعُ الْفَمِ مُكَسَّرًا عَلَى أَفْوَاهٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ فُوهٌ، فَحُذِفَتِ الْفَاءُ وَالْوَاوُ وَعُوِّضَتْ عَنْهُمَا الْمِيمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٌ}.
صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ صَرَّحُوا لِلرُّسُلِ بِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِهِمْ، وَأَنَّهُمْ شَاكُّونَ فِيمَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ، وَقَدْ نَصَّ تَعَالَى عَلَى بَعْضِهِمْ بِالتَّعْيِينِ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِالْكُفْرِ بِهِ، وَأَنَّهُمْ شَاكُّونَ فِيمَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ، كَقَوْلِ قَوْمِ صَالِحٍ لَهُ: {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [11/ 62]، وَصَرَّحُوا بِالْكُفْرِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [7/ 75]، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَذْكُرَ عُمُومًا فِي آيَةٍ، ثُمَّ يُصَرِّحُ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِدُخُولِ بَعْضِ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعُمُومِ فِيهِ كَمَا هُنَا، وَكَمَا تَقَدَّمَ الْمِثَالُ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [22/ 32]، مَعَ قَوْلِهِ: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الْآيَةَ [22/ 36].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ تَوَعَّدُوا الرُّسُلَ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَالنَّفْيِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ إِنْ لَمْ يَتْرُكُوا مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْوَحْيِ، وَقَدْ نَصَّ فِي آيَاتٍ أُخَرَ أَيْضًا عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ مُفَصَّلًا، كَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} الْآيَةَ [7/ 88، 89]، وَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [27/ 56]، وَقَوْلِهِ عَنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} [17/ 76]، وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [8/ 30] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى رُسُلِهِ أَنَّ الْعَاقِبَةَ وَالنَّصْرَ لَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَأَنَّهُ يُسْكِنُهُمُ الْأَرْضَ بَعْدَ إِهْلَاكِ أَعْدَائِهِمْ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [37/ 171- 173]، وَقَوْلِهِ: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [58/ 21]، وَقَوْلِهِ: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الْآيَةَ [40/ 51].
وَقَوْلِهِ: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [7/ 128]، وَقَوْلِهِ: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} الْآيَةَ [7/ 137] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

.تفسير الآية رقم (15):

{وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}.
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ خَيْبَةِ الْجَبَّارِ الْعَنِيدِ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَعْنَى خَيْبَتِهِ وَبَعْضِ صِفَاتِهِ الْقَبِيحَةِ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ ق: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [50/ 24- 25]، وَالْجَبَّارُ: الْمُتَجَبِّرُ فِي نَفْسِهِ، وَالْعَنِيدُ: الْمُعَانِدُ لِلْحَقِّ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} الْآيَةَ.
وَرَاءَ هُنَا بِمَعْنَى أَمَامَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَيَدُلُّ لَهُ إِطْلَاقُ وَرَاءَ بِمَعْنَى أَمَامَ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [18/ 79]، أَيْ: أَمَامَهُمْ مَلِكٌ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا: وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا، وَمِنْ إِطْلَاقِ وَرَاءَ بِمَعْنَى أَمَامَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ لَبِيدٍ:
أَلَيْسَ وَرَائِي إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي ** لُزُومُ الْعَصَا تُحْنِي عَلَيْهَا الْأَصَابِعُ

وَقَوْلُ الْآخَرِ:
أَتَرْجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعِي وَطَاعَتِي ** وَقَوْمِي تَمِيمٌ وَالْفَلَاةُ وَرَائِيَا

وَقَوْلُهُ الْآخَرُ:
وَمِنْ وَرَائِكَ يَوْمٌ أَنْتَ بَالِغُهُ ** لَا حَاضِرَ مُعْجِزٌ عَنْهُ وَلَا بَادِ

فَوَرَاءَ بِمَعْنَى أَمَامَ فِي الْأَبْيَاتِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَعْنَى مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ هَلَاكِهِ جَهَنَّمُ، وَعَلَيْهِ فَوَرَاءَ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى بَعْدَ، وَمِنْ إِطْلَاقِ وَرَاءَ بِمَعْنَى بَعْدَ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ** وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ

أَيْ: لَيْسَ بَعْدَ اللَّهِ مَذْهَبٌ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْحَقُّ.

.تفسير الآية رقم (18):

{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} الْآيَةَ.
ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَعْمَالِ الْكُفَّارِ مَثَلًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيَاحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ، أَيْ شَدِيدِ الرِّيحِ، فَإِنَّ تِلْكَ الرِّيحَ الشَّدِيدَةَ الْعَاصِفَةَ تُطَيِّرُ ذَلِكَ الرَّمَادَ وَلَمْ تُبْقِ لَهُ أَثَرًا، فَكَذَلِكَ أَعْمَالُ الْكُفَّارِ كَصِلَاتِ الْأَرْحَامِ، وَقِرَى الضَّيْفِ، وَالتَّنْفِيسِ عَنِ الْمَكْرُوبِ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ يُبْطِلُهَا الْكُفْرُ وَيُذْهِبُهَا، كَمَا تُطَيِّرُ تِلْكَ الرِّيحُ ذَلِكَ الرَّمَادَ. وَضَرَبَ أَمْثَالًا أُخَرَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ لِأَعْمَالِ الْكُفَّارِ بِهَذَا الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [24/ 39]، وَقَوْلِهِ: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} الْآيَةَ [3/ 117]، وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [2/ 264]، وَقَوْلِهِ: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [25/ 23]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ضَرْبِهِ لِلْأَمْثَالِ أَنْ يَتَفَكَّرَ النَّاسُ فِيهَا فَيَفْهَمُوا الشَّيْءَ بِنَظْرَةٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [59/ 21]، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [14/ 25]، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْأَمْثَالَ لَا يَعْقِلُهَا إِلَّا أَهْلُ الْعِلْمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [29/ 43]، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمَثَلَ الْمَضْرُوبَ يَجْعَلُهُ اللَّهُ سَبَبَ هِدَايَةٍ لِقَوْمٍ فَهِمُوهُ، وَسَبَبَ ضَلَالٍ لِقَوْمٍ لَمْ يَفْهَمُوا حِكْمَتَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [2/ 26]، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا وَلَوْ كَانَ الْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا، قِيلَ: فَمَا هُوَ أَصْغَرُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ يَفُوقُهَا فِي الصِّغَرِ، وَقِيلَ: فَمَا فَوْقَهَا أَيْ فَمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [2/ 26]، وَلِذَلِكَ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِالْعَنْكَبُوتِ فِي قَوْلِهِ: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [29/ 41]، وَضَرَبَهُ بِالْحِمَارِ فِي قَوْلِهِ: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} الْآيَةَ [62/ 5]، وَضَرَبَهُ بِالْكَلْبِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [7/ 176]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.